'الصداقة والأصدقاء' 2
الفرز، وأعني به عدم الخلط بين قوة العلاقة والحب وبين وضع الصديق في النقطة المناسبة لطبعه. فأبو بكر رضي الله عنه أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان رضي الله عنه، ما في ذلك شكٌّ، ولكن في مسألة التواصل، يتم الفرز بحسب الطباع والميول.
بقلم إبراهيم العسعس
... وهكذا فالصداقةٌ فنُّ إدارةِ المسافةِ بيـن اثـنين.
ولكن كيف نكتشف هذه المسافة؟ إنه فنٌّ آخر.
لن نجيب على السؤال بالتنظير، بل من خلال المثال العملي، ذلك أنَّ عرض التجارب الناجحة، وتحليلها، يترك أثراً أبلغ من مئات القواعد النظرية.
وسأسوق لكم مثالاً من سلوك ملك العلاقات، والخبير في ضبط المسافات بين الأصدقاء، أظنـُّكم عرفتموه؟ نعم إنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أنَّ الجوانب التربوية والسلوكية والاجتماعية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتاج لمزيد من الاهتمام والقراءة المختلفة. فنحن على الأغلب نقرأ ما يتعلق بحركته في الحياة صلى الله عليه وسلم على أنَّه وحيٌ مباشر، وبهذا نفقد كثيراً من محلِّ القدوة، فما دام وحياً مباشراً، فلا مدخل فيه ـ إذن ـ للجهد البشري، والتخطيط الإنساني.
وعلى كلٍّ، فالمسألة أصولية، أكتفي بالإشارة إليها، لأعود إلى ما نحن فيه. وكنت أقول: إنَّه صلى الله عليه وسلم أستاذ العلاقات الاجتماعية، لا لأنَّه صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم، بمعنى ليس لأنَّه صلى الله عليه وسلم محب ولطيف وحييٌّ ومتسامح مع الناس وحسْب، بل لأنَّه فداه أبي وأمي قادر على فهم الناس، وإدراك طبائعهم، وكشف دواخلهم بالملاحظة والتجربة، لا بالوحي!
إنَّ حركة رسول الله صلى عليه وبارك وسلم في الحياة، حركةُ إنسان يتفاعل ويُخطِّط ويُفكر ويجرب، حركةٌ في سنن الله الجارية لا في سنن الله الخارقة! ومن أكبر الظلم ـ لأنفسنا ـ أنْ ندرس حركته عليه صلاة الله وسلامه في إطار المعجزة. استطردتُ مرةً أخرى! لا بأس سامحوني، فالموضوع ذو شجون كما يقولون! فلنأتِ إلى المثال:
دخل أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كاشف عن فخذه، فبقي عليه الصلاة والسلام كما هو، ثم دخل عمر رضي الله عنه وبقي صلى الله عليه وسلم على حاله، ثم دخل عثمان رضي الله عنه فاعتدل صلى الله عليه وسلم وغطَّى فخذه!
ولأنَّ مثل هذا التصرف لا يمرُّ على صاحبة الملاحظة الدقيقة؛ عائشة رضي الله عنها، ولا يمكن أن تسكت دون أن تسأل. فكانت الإجابة: "إنَّ عثمان رجل حييٌّ، وإنِّي خشيتُ إن أذنتُ له على تلك الحال أنْ لا يبلغ إليَّ في حاجته"!. رواه مسلم رحمه الله.
أيُّ عظمة هذه؟ وأيُّ دقة؟ وأيُّ قدرة على ضبط المسافات بين أصحابه وتوزيعهم عليها؟ وكلُّ هذا عظيم ودقيق ويدلُّ على مهارة هائلة في ضبط المسافة، وهي أمور تستوقف الدارس. لكن الذي لا ينتهي بالعجب إلى حد ٍّأمران:
الأول: الفرز، وأعني به عدم الخلط بين قوة العلاقة والحب وبين وضع الصديق في النقطة المناسبة لطبعه. فأبو بكر رضي الله عنه أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان رضي الله عنه، ما في ذلك شكٌّ، ولكن في مسألة التواصل، يتم الفرز بحسب الطباع والميول.
ألم تر إلى حذيفة رضي الله عنه؟ كان هو أمين سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي رضي الله عنهم أجمعين، لا لأنَّه أفضل منهم أو أقرب إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم، أو لأنَّه يحفظ ويكشفون! لكن لأنَّه يميل إلى مثل هذه الأمور، ويهتم بها، أليس هو القائل: "كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"، إنَّها موهبة عنده وقد لاحظها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغذَّاها لديه.
وأكاد أجزم أن لو كنا نحن لكان أبو بكر المستشار، وقائد الجيش، وأمين السر، وخبير الاقتصاد، وخازن التموين، وكل ما تبقى من وظائف! ولماذا؟ فقط لأنَّه الحبيب والصديق القريب! وقد يكون الكلام سهلاً، ولكن التطبيق يحتاج إلى التزام صارم، ونزاهة عالية، وثقافة راقية.
ونظرة بسيطة إلى خارطة توزيع الناس على شبكة الحياة بكل أبعادها، تؤكد لنا كم نحن مُتخلّفون! حتى الجماعات الإسلامية التي كان الأمل فيها أن تتقدم على تخلُّف الواقع، لم تسلم من هذه المطبات! فلقد أوصلت الخطيبَ المُفوَّه، المحبوب، الذي يُشعل الحماس في القلوب ببراعة متناهية إلى البرلمان! مع أنه بصفاته السابقة يصلح للحديث مع الناس قبل المعركة بنصف ساعة، لا ليُناقِش المسائل المعقدة تحت قُبَّة البرلمان!
ونعود إلى حديث عثمان رضي الله عنه بعد هذا التوسع الذي اقتضاه الحالُ. فنذكر الأمر الثاني الجدير بالملاحظة:
وهو أنَّ الصديق على شبكة العلاقات مُتحرِّك غير ثابت! فليس بالضرورة أن يلعب صديقٌ ما كلَّ الأدوار، وليس بالضرورة أن يُغطيَ كلَّ حاجات العلاقة، وليس بالضرورة أن يَصلح صديقٌ واحدٌ لتحمُّل كلِّ ما في النفس من نوازع! وهذا لا ينفي أنَّ من الأصدقاء من هو مُقرَّبٌ أكثر من غيره، وأنَّ قُربَه هذا ثابت لا تغيير فيه، لكننا نتحدث عما بعد هذا.
وهكذا، فالصداقة فنُّ توزيع الأصدقاء على شبكة العلاقة. وإلى أن نلتقي.
السبت مارس 19, 2016 12:41 pm من طرف المدير العام
» صراع! صراع صراع
السبت مارس 19, 2016 12:41 pm من طرف المدير العام
» أَنْقِذُوا (العَرَبِيّ)!
السبت مارس 19, 2016 12:39 pm من طرف المدير العام
» تسهيل النجاة
السبت مارس 19, 2016 12:39 pm من طرف المدير العام
» كيف نعيش الأزمة؟
السبت مارس 19, 2016 12:38 pm من طرف المدير العام
» جنايتتا على المؤسسات الخيريّة !
السبت مارس 19, 2016 12:36 pm من طرف المدير العام
» الاستغلاق المؤسسي..،!
السبت مارس 19, 2016 12:36 pm من طرف المدير العام
» داعية العناد وضراوة الاعتياد
السبت مارس 19, 2016 12:35 pm من طرف المدير العام
» الغلو يصنع القادة أم يصنع الطُغاة
السبت مارس 19, 2016 12:27 pm من طرف المدير العام