العزلة والخِلطة!! 1/2
إذ قد نجد الكثير من أولئك الهاربين من خلطة النّاس قد عافاهم الله من الثقافة والناس معاً!!، ولذلك لطالما كان المثقّفون أكثر الناس غربة في مجتمعاتهم؛ لأنّ لهم عالمهم المختلف عن قومهم. وقد تخف هذه الغربة, ولا تختفي تماماً, في المجتمعات التي تنعم بثقافة منتشرة في أوساط المجتمع يتشارك الجميع, عامّة ومثقّفين , في قدر ثقافي مشترك يسمح بنوع من(التفاهم) بين الفئتين, بل ويسمح لقيام النخبة بدور الريادة والقيادة.
بقلم رياض المسيبلي
(..ومن ظن بالمتفرّد خيراً فلأجل أن ليس يظهر منه شيء وهذا يشاركه فيه الموتى..) الإمام الراغب الأصفهاني.
يجد الإنسان في العزلة الحريّة المطلقة في فعل أي شيء وكل شيء, والمفاضلة هنا إنما هو في وجود وازع ما, لذلك تبنى في العزلة عوالم خاصة وتشيّد بكل قوة، ويزداد هذا البناء شدّة وصلابة مع مرور الزمن, وحينها يفقد الإنسان الكثير من صلاته مع المجتمع؛ إذ إنّه بعد أن كون هذا العالم الخاص به واكتمل عنده قائم الأركان واثق البناء, يحمله إلى حياة الناس المختلفة عن عالمه المشيّد!!
لذلك يصطدم المسكين بنظرات غيره إليه, فهو حريص على ما بنى حرصه على كل شيء يخصه, والقليل من يوفّق إلى إعادة النظر وعمل شيء من التهذيب والتشذيب بل والتغيير إن أمكن, لكنّ الكثير -من المعتزلين –يتكرّم برمي الآخرين بالخطأ وأنّهم لا يفهمون شيئاً ألبتّة, وأنّ على الجميع مجاراته والعمل على شاكلته !!
والعزلة تساعد على أن يفقد الإنسان الكثير من أخلاق المنظومة الاجتماعيّة الاعتياديّة منها والمعقّدة, ونقصد بالمعقّدة هنا الثقافيّة بأوجهها المختلفة. وأول إشكال هو في فقدان هذه الأشياء الاعتياديّة, فلأنّها متكرّرة في حياة الناس تجعل من المعتزل غريباً عن الآخرين وتجعلهم أكثر غربة عنه!!
فالأشياء التي يحرص النّاس عليها في طريقة الكلام واللقاء بل والأكل واللباس ليس لها في العزلة وجود؛ إذ إنّ العزلة تعوّد صاحبها على صنع منظومته الخاصّة, لذلك يلاحظ الاختلاف الدائم عند هؤلاء في الكثير من أدبيّات المجتمع التي نشأ أفراده عليها, لا لأنّهم لا يعلمونها بل –في أحيان كثيرة- لأنّ عندهم منظومتهم الخاصّة التي يواجهون بها مجتمعاتهم. والغريب أنّنا نجد الكثير يحاولون التميّز في هذه الأمور, والتي هي حقيقة حاجز حقيقي, لكنّهم لا يختلفون عن مجتمعاتهم في طريقة التفكير ولا يكوّنون لهم تميّزاً ثقافيّاً عن الجهل المحيط بهم, وكأنّ التميّز عند هؤلاء يبدأ من معارض الملابس وينتهي داخل المطاعم !!
أمّا الأمور المعقّدة فلعلّه من الخير أن يكون للإنسان –أي إنسان- مفهومه الخاص أو رؤيته الخاصّة في قبول أفكار مجتمعه أو رفضها. ولا يكون تبنّي الأفكار حينها لمجرّد شهوة الاختلاف أو حبّاً في التميّز إذ إنّ الأفكار ساعتها تفقد فاعليّتها وحينها لن تكون سوى توابيت للخيبة والعبث.
لكن هل يمكن فصل العزلتين عن بعض, الاعتياديّة عن المعقّدة ؟ أيمكن فصل الآثار المتبادلة بينهما؟
أمّا الأولى فطالما كانت نتيجة طبيعيّة للثانية, وليست تعبيراً عن وجودها قطعاً.
إذ قد نجد الكثير من أولئك الهاربين من خلطة النّاس قد عافاهم الله من الثقافة والناس معاً!!
ولذلك لطالما كان المثقّفون أكثر الناس غربة في مجتمعاتهم؛ لأنّ لهم عالمهم المختلف عن قومهم. وقد تخف هذه الغربة, ولا تختفي تماماً, في المجتمعات التي تنعم بثقافة منتشرة في أوساط المجتمع يتشارك الجميع, عامّة ومثقّفين , في قدر ثقافي مشترك يسمح بنوع من(التفاهم) بين الفئتين, بل ويسمح لقيام النخبة بدور الريادة والقيادة.
وتزداد الغربة أو تتناسب طرديّاً مع غياب الثقافة في المجتمع, حتى إذا كانت مجتمعات تسير فيها الثقافة في اتّجاه معاكس لسير المجتمع, صار المثقّفون في حال لا يحسدون عليها, يشار إلى غربتهم أو (جنونهم) بالبنان، كان الله في عونهم.!!
لكن ليس-بالضرورة- أن يكون السبب في هذه الغربة غياب الثقافة, بل في أحيان كثيرة يكون للمثقّف دور كبير في غربته, كغيابه عن آلام المجتمع وهمومه وأوجاعه, وقد نجده في الآن ذاته يتحسّر على حاله أن وجد في وسط(متخلّف) لا يعرف مالديه!! تبّاً له!!
كما أنّ الطاغوتيّة وغياب العدل غربة مفجعة للجميع؛ ففي ظل الخوف الكل غريب عن الآخر, ينظر الجميع إلى بعضهم البعض نظرات فقدت طبيعتها وإنسانيّتها, إذ قد نشلها الطغيان والذل كل هذه المعاني الجميلة!
كما أنّ المثقّف الذي رضي لنفسه بدور جسر رديء تعبر عليه أفكار غريبة عن مجتمعه, شاذّة لا تحمل له سوى التبعيّة والعبوديّة لا بد أن يكون غريباً. وهذه الغربة يجب أن تمارس بشكل مضاد, أي أن يمارسها المجتمع ضد هذا الخانع, وتكون هذه الممارسة منظّمة تمارس على علم وهدي وفكر, ليحافظ المجتمع على استقلاليّته الفكريّة.
إنّ العزلة وبداياتها في ديننا كانت إيجابيّة, فقد كانت عزلة تقتطع من الزمن مساحة لإعادة البناء والتأمّل والتفكّر, يعقب كل ذلك فعل وحركة ونهضة. ولأنّ الأفكار تفقد حياتها متى ما تحوّلت إلى رموز, ونتيجة للظروف التي عصفت بالمجتمع الإسلامي بعد الخلافة الراشدة, فقد تحوّلت (العزلة) إلى شيء مقدّس, أي إلى رمز, شأنها شأن الكثير من التعاليم الإسلاميّة, ومورست –العزلة- دون آثارها لأنّها غدت شيئاً موروثاً, وملجأً آمناً تجاه هذه الحياة الجديدة المليئة بكل ما يصد المثقّف ويزيد من غربته. ومع مرور الزمن صارت العزلة أمراً منظّماً وطقساً لا حياة له, بل وصارت الغربة, غربة النخبة, أمراً منظّراً توضع له النظم والقواعد والتعاليم!!
فلا غرابة أن نجد الحث على اعتزال (العامّة) منتشراً في الكثير من الكتب الإسلاميّة, بل وتذمّر الكثير من علمائنا من العامّة.
1-أبغض كلمة العامّة هذه لما علقها من معانٍ تدل على عجرفة النخبة, لكن لا بد من استخدامها, ولعل للعامة عزاء في قول ابراهام لنكلن, كما سمعته من أستاذنا محمد الأحمري:
(إنّ الله يحب العامّة, لذلك خلق منهم الكثير!!).
2-لا ننسى أنّه قد سبق ذلك اعتزال السّلاطين وأعوانهم, وكان هذا شيئاً ضروريّاً وفعّالاً, لكنّه بعد ذلك أخذ كأمر يجعل من العزلة أكثر رمزيّة وقدسيّة!!
السبت مارس 19, 2016 12:41 pm من طرف المدير العام
» صراع! صراع صراع
السبت مارس 19, 2016 12:41 pm من طرف المدير العام
» أَنْقِذُوا (العَرَبِيّ)!
السبت مارس 19, 2016 12:39 pm من طرف المدير العام
» تسهيل النجاة
السبت مارس 19, 2016 12:39 pm من طرف المدير العام
» كيف نعيش الأزمة؟
السبت مارس 19, 2016 12:38 pm من طرف المدير العام
» جنايتتا على المؤسسات الخيريّة !
السبت مارس 19, 2016 12:36 pm من طرف المدير العام
» الاستغلاق المؤسسي..،!
السبت مارس 19, 2016 12:36 pm من طرف المدير العام
» داعية العناد وضراوة الاعتياد
السبت مارس 19, 2016 12:35 pm من طرف المدير العام
» الغلو يصنع القادة أم يصنع الطُغاة
السبت مارس 19, 2016 12:27 pm من طرف المدير العام